خفايا الإبداع
حين تطلق لنفسك عنان التأمل، لا تعرف كيف تحاصرك الأسئلة تدريجياً لتقودك في النهاية إلى إحساس مؤلم ناجم عن عدم قدرتك على اللحاق بالمدى غير المنظور للتعرف على مفردات الكون من حولك، ومن تلك الأسئلة: أيّ من هذه القضايا أسبق في الوجود، الصمت أم الصوت؟! السكون أم الحركة؟! الجمود أم الحياة؟! ونضيف أيضاً: الكلمة أم الفعل؟! العقل أم الجنون؟! التنظيم أم الفوضى؟ إلى آخر تلك الثنائيات التي تمنح، من خلال تناقضها من ناحية، وتوحدّها من ناحية ثانية، الحياة دوام قوتها واستمرارها.. ولكن هل ترانا نستطيع أن نحظى بإجابات شافية عن هذه الأسئلة؟ أم أنّ أسرارها ستظلّ، مخبّأة خلف أستار الماضي الضارب بعيداً في مجاهل القدم والتاريخ، وأننا سوف نجد، صعوبة كبيرة في سعينا لاكتشاف ماهية خيوط تلك الأسرار الداخلة في أصل نسيج كلّ الموجودات المتناثرة على مساحة الكون..؟!
وإذا كان الإنسان هو المعني بالبحث عن إيجاد حلول لإشكالات هذه التساؤلات، فهل هو قادر بحق على أن يتخطّى حدود وجوده المنحصر حتماً في جزء يسير من كلّ هائل، هو الكون الرحب الذي لم يجزم أحد بحدود ثابتة له، كما لم يعرف أحد له تاريخ ميلاد مدوّن لدى أيّة دائرة كونية متخصصة..أعني بإيجاز هل يمكن للجزء أن يحيط بالكل؟!
ولكن هل يجوز لنا أن نفكّر بهذه الطريقة الميكانيكية البحتة؟! أقصد هل يكون الإنسان بحق جزءاً منفصلاً انفصالاً كلياً عن الكون الذي ينتمي إليه؟! أم أنّ قول الشاعر ابن عربي فيه هو الأصدق تعبيراً وإحساساً:
أتحسبُ أنّكَ جرمٌ صغيرٌ وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ
يخطر لي أحياناً أنّ الإنسان، منذ زمن بعيد نسبياً، آخذ في الانتقال من النظرة الكلية للأشياء، إلى النظرة الجزئية، ففي كلّ يوم، نسمع بعلم جديد، يبحث في جانب معين من جوانب الحياة، وقد كان قبلاً مندمجاً في غيره من العلوم، ومسألة البحث هذه مستمرة، وكذلك الحياة ماضية في نموّها وتطورها، وعبثاً، فيما يبدو لي، يسعى الإنسان لمعرفة كنهه، أو كنه الحياة ذاتها. وإذا ما حصل، ففي ظنّي أنّ ذلك الاكتشاف لن يقود، في نهاية المطاف، إلى غير الموت أو العدم..! وقد تنطفئ عندئذ شعلتا الأدب والفن القادرين على أن يكونا المعادل المناسب لذلك المسعى الإنساني الأبدي، أو هما القادران على التعبير عن هذا الجانب السرمدي الذي يلهث خلفه الإنسان، فالأدب أو الفن لا يعكسان جانباً محدداً من وعي الإنسان، كالجانب العقلي مثلاً، أو الجانب العاطفي، أو الشعوري، أو الخيالي، أو أيّ جانب آخر..! بل هما يعكسان كلّ مكوّنات وعي الإنسان في أظهر حالات تجلّيها، ترابطاً وتمازجاً وتماسكاً..! فالفنان الحق، مهما كان نوع الفن الذي يمارسه، لا يعكس في فنّه جزءاً محدداً من وعيه المشار إليه، بل هو يعكس ذاته الواعية المتمثلة لأنواع الوجود من حوله، إن صح التعبير، وقد لا يتأتى له ذلك في أي وقت كان، بل في لحظات خاصة جداً، لحظات تتجلّى فيها مكوّنات الذات الإبداعية وهي تعمل باتحاد وانسجام وتكامل. وقد لا تعترض هذه الحالة حياة الفنان سوى مرات معدودات، وهذا يفسر لنا تفاوت الأعمال الإبداعية للفنان الواحد، وأنّ عظمة الفنّان قد تأتي من خلال عمل أو أكثر، وقد نفهم من هذه الفكرة سرّ الموت المبكر للعديد من العباقرة المبدعين و قد يكون ذلك عين ما أشار إليه أبو العلاء المعري في حادثة الولد الذي تحدّاه في أن يضيف حرفاً على الأبجدية..
وما الدراسات النقدية المتتالية والمتفاوتة زماناً ومكاناً، إلا تعبير عن هذه الحالات فكل ناقد يلتقط من النص المدروس ما تلتقطه ذاته الناقدة من أمور فيها من الجدة ما يجلو النص ويكشف عن أسراره الدفينة.
_______
المصدر : http://www.an-nour.com/old/156/culture&arts/culture_arts%20(2).htm
Bookmarks